السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من مظاهر غربة الدين في زماننا اليوم أن تصبح أصول الإيمان والتوحيد عُرضة للأخذ والرد بين أبناء المسلمين، ويصبح المتمسّك بها غريباً توجَّه إليه سهام النقد ويوصف بالتشدد والتطرف وبث الفرقة في الأمة وابتغاء الفتنة بين طوائف المجتمع في الدولة الواحدة وأبناء الوطن الواحد!!
ومن هذه الأصول العظيمة التي توجَّه لها سهام الهدم والاستهجان، عقيدة الولاء والبراء؛ الولاء لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الموحدين، والبراءة من الشرك والمشركين، قال الله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ}[الأنعام: 14]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: ٤]، وقوله تعالى: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: 71].
ومن أخطر المعاول التي تستخدم اليوم لهدم عقيدة الولاء والبراء، معول «الوطنية» عندما يراد بها إحلال رابطة الوطن محل رابطة الإخاء الإسلامي، وذلك يفقد الولاء والبراء بين أبناء المجتمع المسلم.
إن حب الوطن ومكان المنشأ والحنين إليه طبعٌ جبلّي فطري مغروس في النفوس، ولشدة مفارقة الأوطان على النفوس رتب الله - عز وجل - عليها الثواب العظيم للمهاجرين في سبيله المفارقين لأوطانهم من أجله، قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْـمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر: ٨].
وها هو بلال - رضي الله عنه - يحنّ إلى وطنه الأصلي مكة بعد أن هاجر منها ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخر وجليل
فهذا الحب والحنين لا ضير فيه ولا لوم وليس نزاعنا مع دعاة الوطنية في هذه المسألة.
إنما اللوم والانحراف والنزاع في جعل الانتماء إلى الوطن الواحد هو معيار الولاء والمحبة والنصرة لكل من يعيش تحت مظلة الوطن الواحد، ولو كان مشركاً أو منافقاً، وجعله هو المقدَّم والمكرَّم على من ليس من أبناء الوطن، ولو كان مسلماً صالحا تقياً. إن هذا هو الانحراف والعودة إلى موازين الجاهلية ومعاييرها في الولاء والنصرة وفي العداوة والبراءة، نعم؛ إذا كان المواطن موحداً صالحاً خيّراً فهذا نور على نور ولا تثريب على من وجد ميلاً أكثر إلى الموحد الصالح من قرابته أو قبيلته أو من أبناء وطنه.. أما أن يجد ميلاً ومحبة وتآخياً مع أهل الشرك والنفاق ويجعله يسكت عن شركهم ونفاقهم لأنهم من أبناء وطنه؛ فهذا هو المرفوض في ميزان الله - عز وجل -، قال الله عن نوح - عليه السلام - حينما قال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله عز وجل له: {إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِـحٍ} [هود: 46].
إنه لا يخفى ما في «الوطنية» بالمفهوم الجاهلي من هدم لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فكم في الوطن الواحد من العقائد الباطلة الكفرية التي يخرج صاحبها من الإسلام، كمن يعبد غير الله - عز وجل - ويستغيث به ويدّعي أن غير الله يعلم الغيب كغلاة الشيعة والصوفية.. وكم في الوطن الواحد من يكفّر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويعاديهم ويقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم العفيفات الطاهرات.. وكم في الوطن الواحد من المنافقين الذين يبطنون العداء للإسلام وأهله ويوالون الغرب وأهله.. فهل هؤلاء هم منا ونحن منهم لأننا وإياهم نعيش في وطن واحد؟ إننا بهذا الفهم نعود إلى صورة من صور الجاهلية الأولى التي جاء هذا الدين للقضاء عليها وجعل رابطة العقيدة والإيمان فوق كل رابطة يعادى من أجلها ويوالى من أجلها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها.
قال صلى الله عليه وسلم: «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا».
فسمع أبي بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان! فقال: اعضض إير أبيك. فقال: يا أبا المنذر! ما كنت فاحشاً. فقال: بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم[1].
ويشرح شيخ الإسلام هذا الحديث فيقول: «(ومعنى قوله: من تعزى بعزاء الجاهلية) يعني يتعزى بعزائهم، وهو الانتساب إليهم في الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو لأصدقائه دون غيرهم؛ كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله»[2].
وقد وقفت في الشبكة العنكبوتية على دراسة مهمة يتحدث فيها كاتبها د. أحمد محمود السيد عن (فقه المواطنة وأصولها الغربية في الجاهلية المعاصرة)، ونظراً لأهميتها وعلاقتها بموضوعنا، أنقل بعض ما ورد فيها، حيث يقول وفقه الله تعالى: «في هذه الأيام يتردد لفظ المواطنة على ألسنة المهتمين بالعمل السياسي ودعاة العلمانية وأنصار المنهج العلماني بوجه عام، ولا عجب أن يصدر مثل هذا من هؤلاء، حتى إن ادّعى بعضهم أنه لا يتعارض مع الإسلام، أو أن الإسلام قد عمل به وأسسه، بل العجب كل العجب أن ينبري بعض الشيوخ وعلماء الشريعة لإثبات أنه مبدأ إسلامي أصيل وأن مضمون هذا المفهوم مماثل لما جاء به الشرع الحنيف!
والأدهى من ذلك أن التشبيه نفسه يتكرر كما حدث في الستينيات مع الاشتراكية، فهناك من كتب عن «المواطنة في الإسلام»، و«المواطنة عند رسول الله»، و«المواطنة في الشريعة الإسلامية»، و«المواطنة مبدأ إسلامي أصيل»، و«مبدأ المواطنة أهم دروس الهجرة»؛ وهناك من استدل بآيات قرآنية وتفسيرات حاول أن يلوي بها أعناق الآيات كي تعبر عن مفهوم المواطنة الغربي، مؤكداً تطابقها مع تفسيرات القرآن!
تعالوا نتفهم معنى المواطنة في دولة المنشأ لنعرف إن كانت تصلح كمبدأ إسلامي أم لا؟
يعرّف قاموس المصطلحات السياسية «المواطنة» بأنها: مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة بالمساواة أمام القانون (الوضعي) في ظل هيمنة الدولة القومية.
ويعبّر مفهوم المواطنة بمعناه الحديث عن تطور شديد التعقيد صاغته أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر خلال عمليات تاريخية واجتماعية وسياسية تم فيها الانتقال من الحق الإلهي المقدس إلى حق المواطن، ومن هيمنة الكنيسة إلى هيمنة الدولة.
والمواطنة كمفردة من مفردات النظام السياسي الغربي الذي انتشر في أوروبا ومنها إلى أمريكا ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك؛ ترتكز على مجموعة عناصر أساسية، أهمها:
إحلال تقديس الوطن وتقديمه على تعظيم الله وحده.
إعلاء وتقديم الولاء للوطن على أي ولاء آخر حتى ولو كان الدين.
إحلال الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية كأساس لتجانس الجماعة السياسية.
هذه العناصر تظهر بوضوح الحل الذي وضعه الأوروبيون لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة من خلال (المواطنة) وفكرة الدولة القومية، وهذا الحل هو الذي شكل الأساس الذي قامت عليه ظاهرة الدولة القومية التي أوجدها الأوروبيون أنفسهم كأداة للتخلص من طغيان السلطة الدينية وتجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الغربية، ولذلك قامت الدولة القومية على مبدأ الفصل بين الدين والدولة؛ بمعنى عدم توظيف الدين في خدمة السياسة وعدم توظيف السياسة في خدمة الدين، ورفض تدخل المؤسسات الدينية في كل ما له صلة بالعلاقة بين الوطن والدولة، وجعل نشاط القوى الدينية قاصراً على الجوانب الروحية دون الحياة السياسية، وتخليص النشاط الديني من الدوافع والمطالب السياسية.
فالمواطنة كمبدأ سياسي لا تعمل بعيداً عن النظرية السياسية الغربية التي صاغتها، ولا يمكن أن تقطع من سياقها ليتم تفعيلها في نظام آخر مختلف عقائدياً واجتماعياً وتاريخياً، فالنظام السياسي الإسلامي يقوم على مجموعة مبادئ تعمل معاً لتحقيق مبادئ الإسلام وهديه من خلال منظومة من الآليات، مثل: الإمامة، أهل الحل والعقد، الشورى، والخلافة... إلخ.. والتميز فيها يكون للمسلم، فلا يستوي المؤمنون والكافرون، وإذا كان معيار التفضيل هو التقوى كما في الحديث «لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى»، فإن هذه التقوى معناها الإسلام والإيمان الخالص، وهذا ليس معناه ظلم المخالفين في العقيدة، لكنهم في ظل الدولة الإسلامية يتعاملون من خلال العهود والمواثيق التي تحفظ لهم حقوقهم وتحفظ للدولة الإسلامية ما تفرضه عليهم من واجبات»[3].
هذه هي حقيقة الوطنية وملابسات نشأتها وخطرها العظيم على عقيدة التوحيد والموالاة والمعاداة فيه.
فهل يسوغ بعد ذلك لأحد أن يرفع سيف الوطنية في وجه كل من يرفض أن يكون الانتماء الوطني هو الأساس الذي يعقد عليه الولاء والبراء، بغض النظر عن عقائد هؤلاء المواطنين ونحلهم؟ هل يجوز أن تكون رابطة الوطن فوق رابطة التوحيد؟ هل يجوز أن يتآخى ويتحاب الموحدون مع المشركين والكفار والمنافقين والرافضة الباطنيين ويسكت عن كفرهم ونفاقهم بحجة أنهم أبناء وطن واحد وبحجة أن الانطلاق من التوحيد في الولاء والبراء يفرق الأمة ويذكي الفتن الطائفية فيها؟!
إن هذا هو ما يدعو إليه العلمانيون والباطنيون ومن تأثر بهم من المخدوعين من أبناء المسلمين.
نسأل الله - عز وجل - أن يحيينا ويميتنا على التوحيد، وأن يتوفانا طيبين، وأن يعيذنا من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
:: مجلة البيان العدد 305 محرم 1434هـ، نوفمبر 2012م.
[1] أخرجه أحمد في مسنده (20728) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (269).من مظاهر غربة الدين في زماننا اليوم أن تصبح أصول الإيمان والتوحيد عُرضة للأخذ والرد بين أبناء المسلمين، ويصبح المتمسّك بها غريباً توجَّه إليه سهام النقد ويوصف بالتشدد والتطرف وبث الفرقة في الأمة وابتغاء الفتنة بين طوائف المجتمع في الدولة الواحدة وأبناء الوطن الواحد!!
ومن هذه الأصول العظيمة التي توجَّه لها سهام الهدم والاستهجان، عقيدة الولاء والبراء؛ الولاء لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الموحدين، والبراءة من الشرك والمشركين، قال الله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ}[الأنعام: 14]، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: ٤]، وقوله تعالى: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: 71].
ومن أخطر المعاول التي تستخدم اليوم لهدم عقيدة الولاء والبراء، معول «الوطنية» عندما يراد بها إحلال رابطة الوطن محل رابطة الإخاء الإسلامي، وذلك يفقد الولاء والبراء بين أبناء المجتمع المسلم.
إن حب الوطن ومكان المنشأ والحنين إليه طبعٌ جبلّي فطري مغروس في النفوس، ولشدة مفارقة الأوطان على النفوس رتب الله - عز وجل - عليها الثواب العظيم للمهاجرين في سبيله المفارقين لأوطانهم من أجله، قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْـمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحشر: ٨].
وها هو بلال - رضي الله عنه - يحنّ إلى وطنه الأصلي مكة بعد أن هاجر منها ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخر وجليل
فهذا الحب والحنين لا ضير فيه ولا لوم وليس نزاعنا مع دعاة الوطنية في هذه المسألة.
إنما اللوم والانحراف والنزاع في جعل الانتماء إلى الوطن الواحد هو معيار الولاء والمحبة والنصرة لكل من يعيش تحت مظلة الوطن الواحد، ولو كان مشركاً أو منافقاً، وجعله هو المقدَّم والمكرَّم على من ليس من أبناء الوطن، ولو كان مسلماً صالحا تقياً. إن هذا هو الانحراف والعودة إلى موازين الجاهلية ومعاييرها في الولاء والنصرة وفي العداوة والبراءة، نعم؛ إذا كان المواطن موحداً صالحاً خيّراً فهذا نور على نور ولا تثريب على من وجد ميلاً أكثر إلى الموحد الصالح من قرابته أو قبيلته أو من أبناء وطنه.. أما أن يجد ميلاً ومحبة وتآخياً مع أهل الشرك والنفاق ويجعله يسكت عن شركهم ونفاقهم لأنهم من أبناء وطنه؛ فهذا هو المرفوض في ميزان الله - عز وجل -، قال الله عن نوح - عليه السلام - حينما قال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله عز وجل له: {إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِـحٍ} [هود: 46].
إنه لا يخفى ما في «الوطنية» بالمفهوم الجاهلي من هدم لعقيدة الولاء والبراء في هذا الدين، فكم في الوطن الواحد من العقائد الباطلة الكفرية التي يخرج صاحبها من الإسلام، كمن يعبد غير الله - عز وجل - ويستغيث به ويدّعي أن غير الله يعلم الغيب كغلاة الشيعة والصوفية.. وكم في الوطن الواحد من يكفّر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويعاديهم ويقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم العفيفات الطاهرات.. وكم في الوطن الواحد من المنافقين الذين يبطنون العداء للإسلام وأهله ويوالون الغرب وأهله.. فهل هؤلاء هم منا ونحن منهم لأننا وإياهم نعيش في وطن واحد؟ إننا بهذا الفهم نعود إلى صورة من صور الجاهلية الأولى التي جاء هذا الدين للقضاء عليها وجعل رابطة العقيدة والإيمان فوق كل رابطة يعادى من أجلها ويوالى من أجلها ويحب من أجلها ويبغض من أجلها.
قال صلى الله عليه وسلم: «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا».
فسمع أبي بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان! فقال: اعضض إير أبيك. فقال: يا أبا المنذر! ما كنت فاحشاً. فقال: بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم[1].
ويشرح شيخ الإسلام هذا الحديث فيقول: «(ومعنى قوله: من تعزى بعزاء الجاهلية) يعني يتعزى بعزائهم، وهو الانتساب إليهم في الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو لأصدقائه دون غيرهم؛ كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله»[2].
وقد وقفت في الشبكة العنكبوتية على دراسة مهمة يتحدث فيها كاتبها د. أحمد محمود السيد عن (فقه المواطنة وأصولها الغربية في الجاهلية المعاصرة)، ونظراً لأهميتها وعلاقتها بموضوعنا، أنقل بعض ما ورد فيها، حيث يقول وفقه الله تعالى: «في هذه الأيام يتردد لفظ المواطنة على ألسنة المهتمين بالعمل السياسي ودعاة العلمانية وأنصار المنهج العلماني بوجه عام، ولا عجب أن يصدر مثل هذا من هؤلاء، حتى إن ادّعى بعضهم أنه لا يتعارض مع الإسلام، أو أن الإسلام قد عمل به وأسسه، بل العجب كل العجب أن ينبري بعض الشيوخ وعلماء الشريعة لإثبات أنه مبدأ إسلامي أصيل وأن مضمون هذا المفهوم مماثل لما جاء به الشرع الحنيف!
والأدهى من ذلك أن التشبيه نفسه يتكرر كما حدث في الستينيات مع الاشتراكية، فهناك من كتب عن «المواطنة في الإسلام»، و«المواطنة عند رسول الله»، و«المواطنة في الشريعة الإسلامية»، و«المواطنة مبدأ إسلامي أصيل»، و«مبدأ المواطنة أهم دروس الهجرة»؛ وهناك من استدل بآيات قرآنية وتفسيرات حاول أن يلوي بها أعناق الآيات كي تعبر عن مفهوم المواطنة الغربي، مؤكداً تطابقها مع تفسيرات القرآن!
تعالوا نتفهم معنى المواطنة في دولة المنشأ لنعرف إن كانت تصلح كمبدأ إسلامي أم لا؟
يعرّف قاموس المصطلحات السياسية «المواطنة» بأنها: مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة بالمساواة أمام القانون (الوضعي) في ظل هيمنة الدولة القومية.
ويعبّر مفهوم المواطنة بمعناه الحديث عن تطور شديد التعقيد صاغته أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر خلال عمليات تاريخية واجتماعية وسياسية تم فيها الانتقال من الحق الإلهي المقدس إلى حق المواطن، ومن هيمنة الكنيسة إلى هيمنة الدولة.
والمواطنة كمفردة من مفردات النظام السياسي الغربي الذي انتشر في أوروبا ومنها إلى أمريكا ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك؛ ترتكز على مجموعة عناصر أساسية، أهمها:
إحلال تقديس الوطن وتقديمه على تعظيم الله وحده.
إعلاء وتقديم الولاء للوطن على أي ولاء آخر حتى ولو كان الدين.
إحلال الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية كأساس لتجانس الجماعة السياسية.
هذه العناصر تظهر بوضوح الحل الذي وضعه الأوروبيون لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة من خلال (المواطنة) وفكرة الدولة القومية، وهذا الحل هو الذي شكل الأساس الذي قامت عليه ظاهرة الدولة القومية التي أوجدها الأوروبيون أنفسهم كأداة للتخلص من طغيان السلطة الدينية وتجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الغربية، ولذلك قامت الدولة القومية على مبدأ الفصل بين الدين والدولة؛ بمعنى عدم توظيف الدين في خدمة السياسة وعدم توظيف السياسة في خدمة الدين، ورفض تدخل المؤسسات الدينية في كل ما له صلة بالعلاقة بين الوطن والدولة، وجعل نشاط القوى الدينية قاصراً على الجوانب الروحية دون الحياة السياسية، وتخليص النشاط الديني من الدوافع والمطالب السياسية.
فالمواطنة كمبدأ سياسي لا تعمل بعيداً عن النظرية السياسية الغربية التي صاغتها، ولا يمكن أن تقطع من سياقها ليتم تفعيلها في نظام آخر مختلف عقائدياً واجتماعياً وتاريخياً، فالنظام السياسي الإسلامي يقوم على مجموعة مبادئ تعمل معاً لتحقيق مبادئ الإسلام وهديه من خلال منظومة من الآليات، مثل: الإمامة، أهل الحل والعقد، الشورى، والخلافة... إلخ.. والتميز فيها يكون للمسلم، فلا يستوي المؤمنون والكافرون، وإذا كان معيار التفضيل هو التقوى كما في الحديث «لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى»، فإن هذه التقوى معناها الإسلام والإيمان الخالص، وهذا ليس معناه ظلم المخالفين في العقيدة، لكنهم في ظل الدولة الإسلامية يتعاملون من خلال العهود والمواثيق التي تحفظ لهم حقوقهم وتحفظ للدولة الإسلامية ما تفرضه عليهم من واجبات»[3].
هذه هي حقيقة الوطنية وملابسات نشأتها وخطرها العظيم على عقيدة التوحيد والموالاة والمعاداة فيه.
فهل يسوغ بعد ذلك لأحد أن يرفع سيف الوطنية في وجه كل من يرفض أن يكون الانتماء الوطني هو الأساس الذي يعقد عليه الولاء والبراء، بغض النظر عن عقائد هؤلاء المواطنين ونحلهم؟ هل يجوز أن تكون رابطة الوطن فوق رابطة التوحيد؟ هل يجوز أن يتآخى ويتحاب الموحدون مع المشركين والكفار والمنافقين والرافضة الباطنيين ويسكت عن كفرهم ونفاقهم بحجة أنهم أبناء وطن واحد وبحجة أن الانطلاق من التوحيد في الولاء والبراء يفرق الأمة ويذكي الفتن الطائفية فيها؟!
إن هذا هو ما يدعو إليه العلمانيون والباطنيون ومن تأثر بهم من المخدوعين من أبناء المسلمين.
نسأل الله - عز وجل - أن يحيينا ويميتنا على التوحيد، وأن يتوفانا طيبين، وأن يعيذنا من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
:: مجلة البيان العدد 305 محرم 1434هـ، نوفمبر 2012م.
[2] مجموع الفتاوى 28/422.
[3] انظر موقع أنا المسلم.
تعليق